2009 - الفنان نجا المهداوي في فردوس الكلام

طلال معلا

التشكيل العربي، الرؤى المشتركة وشهوة المعاصرة، صص. 133-137.


                   "خاطر من ألقى بنفسه ولم يركب
                   وهلك من ركب ولم يخاطر"
                   النفري

 

     على مدى السنوات التي عرفت فيها الفنان نجا المهداوي دون أن أراه، أو من بعد، تلك السنوات التي كنت ألتقيه بها في غير موقع، لم أكن أتوقع أن نجلس معاً، سوية مع بعض الأصدقاء في أحد مقاهي (سيدي بوسعيد) ، ليشير بيده إلى منزل أنيق خلفنا قائلاً بالحيوية المعهودة عنه: ولدت هنا. فيما كان البحر الأبيض المتوسط بزرقته الآسرة يمنح حديثنا الحميم فرصة لتبادل الأفكار حول الكثير من القضايا الإبداعية، ومنها تجربته المتميزة البالغة الرصانة، المولودة في هذا الموقع التاريخي الساحر، وبكل ما تعاقب عليها من حضارات، والتي استطاعت أن تثير الكثير من الجدل حولها - معها وعليها - ليبقى الاختلاف مادة للتداول. فيما أرى أن تفحص ما أنتج الفنان لابد ينطوي دائماً على تقديم معالجات وتحليلات تمثل تداولاً معرفياً موازياً لهذه التجربة، دون أن تتضمن أية نتائج أو آراء نقدية إطلاقية. خاصة إذا تم المزج بين المنهج الذي ارتآه المهداوي في تطلعه البصري، والاشتغال العربي العام في المرسومات الخطية التي ما زالت بحاجة إلى التحليل والقراءة.

     لا شك أن تجربة الفنان التونسي نجا المهداوي هي إحدى التجارب المؤسسة على المستوى العربي لما دعي أحياناً بالحروفية، أو الأعمال التشكيلية المستندة إلى الكتابة العربية أحياناً أخرى. إلا أنني أفضل اعتبار مثل هذه الأعمال في إطار المرسوم الخطي، الذي يتيح لنا الامتداد والتشعب في قراءة المنجز من زوايا مختلفة. بما يفتح الصحة البصرية والبلاغية على ضفاف تتجاوز القواعد، والصفات، التي أطلقت - سابقاً - بكثير من الشاعرية، واختلاط الأدبي بالمبصور. فالأفضل معالجة الأمر في إطار وجوده وتحققه، دون أن أنفي كل ما ماأثير حول تجربة المهداوي. إذ تشكل مختلف الحواشي والتفسيرات والتعليقات جزءاً أساسياً من القوسين اللذين يضمان تجربته المتأثرة – بشكل كبير - بتركيبة الفنان الحيوية، واعتباره أن هذه التجربة إنما تمثل نصاً بصرياً واحداً، عمل على بنائه بمختلف المواد، وعبر مختلف التطلعات التعبيرية، للإفصاح عن الأسئلة الأولى التي طرحها - منذ البداية – على نفسه، وهو بمواجهة المعتاد عربياً، والمهيمن غربياً. وهي نقطة أساسية على مستوى تأريخ تجربته، باعتباره رائداً من رواد المرسوم الخطي العربي، ممن تساءلوا السؤال الأهم، حول كيفية الخروج من التكرار والجمود في طرح مفردات بعينها. والانتباه إلى أن حركة الفن لا تقبل النسخ، سواء من الحضارة العربية أو الإسلامية أو باقي الحضارات الإنسانية. وكذلك لا تقبل توصيف الأثر الجمالي على المستوى التشكيلي، واعتماده باعتباره كان أثراً متداولاً يحتوي على أكبر قدر من الرمزية.

     يقول الفنان نجا المهداوي: "قضيتى الرئيسية في الرسم هي أولاً: السعي إلى الابداع، وإرادة الإفلات من المتاهة الثقافية التي تجبرنا على الإذعان لنوع محدد، أو لأسلوب مسبق ومنجز. كان لابد لي فكرياً وثقافياً أن أبدأ بتفكيك الأشكال، وتأثيرات المدارس الأخرى. ثم كان من الضروري أن أباشر في تعرية الشكل المكتوب (القواعد – الرموز الثقافية): الحروف، الإشارات، الرسائل، الكلمات والرموز. القضية هي قضية تخطي الشيفرة، والانفصال عن الكتابة العلمية للفعل المرئي، وعن السلطة الموجبة للمعلن، وغير المعلن".

     منذ منتصف الثمانينات كان المهداوي يردد هذه المفاهيم، محاولاً استعادة ما يشعر بفقدانه.. إشاراته الخاصة التي تلائمه، وتميزه في السياق الإنساني المتعلق بالمستقبل لاالماضي. وإذا كانت الحروف تبدو ظاهرة على المستوى التشخيصي والتجسيدي في بعض أعماله، فإن جانباً كبيراً من منجزه لا يعتمد هذا التجسيد. وهو بكلا الحالتين ينطلق بشكل متكافئ لتحقيق رؤيته المختلفة، سواء اعتمد الهندسة المحكمة بإغلاق الخطاب البصري في رهانات الفضاء، أو لجأ إلى السرد المبصور الذي يستحيل فردوساً للكلام. غير خاضع لعبارة، أو معنى، أو شرح. معتمداً على قيمة الروابط البصرية اللانهائية التشكل، التي تشبه نظام الحكي. وإذا كان كثير من فناني المرسومات الخطية يعتمدون على ربط حروفهم بالجليل، فإن رهانات المهداوي بقيت بعيدة عن هذه المفاتيح اليقينية في إيحائه بظهور الكتابة، وكأن اللغة تظهر فقط في قوانين تسلسلها الزمني وهي تسعى لتمثيل ما لم يتم تمثيله، أو ما لا يمكن تمثيله.

     في ألف ليلة وليلة، أو عبور ابن عربي بتونس، أو عبر أي نص شعري، أو حكاية، يختفي الحدث في أعمال المهداوي، ليتحول إلى عرض لا صلة له بالتمثيل. ولهذا فإن المشاهد لا يتمكن من فصل عمل واحد عن مجمل أعماله، كون الكل هو الذي يمتلك الحقيقة. ولعل تسلسل الإنجاز وغزارته يؤكدان هذا المعنى، دون أن ننفي أن كل عمل يمكن أن يمثل نموذجاً متكاملاً للتجربة في الاشتغال على اللا نهائي والأزلي، عبر طاقة بصرية مليئة برغبة السرد، ومفرطة في وعيها للمتلقي. وتتمثل رغبة السرد البصري في تمثيل الإشارات المستمدة من قوة الخيال في إعادة صياغة الحيز - كل مرة - دون أن تكون أية مساحة ممثلة لمساحة أخرى، أو لاغية لها. فالتكامل بين المليء والفارغ يولد شحنات تقود البصر إلى الحركة، وهو الأمر ذاته الذي دفع الفنان لتقديم عروض جسدية تحمل حقيقة هذه الشحنة المتولدة من إشارات مرسوماته الخطية، وهو استخدام صريح يستجيب فيه الجسد الإنساني للتوجيهات المسرحية، التي تفند منظومة تخيل الفنان للبهجة، والمقدس، والجليل الدنيوي، المتشكل في بؤرة عين تنظر من الأعلى إلى مشهد المعنى، والدلالة.

     مؤخراً لم يذهب المهداوي إلى الحرف باعتباره موروثاً، ولكي يبقى في إطار رؤية هدفها الوعي بالخفي من إمكانات الحرف، فإنه يقلب الملفوظ إلى صمت مشحون برحلات عبر- تاريخية، تجمع الأندلس وبغداد ودمشق إلى تونس، والهندسة المحكمة إلى شروحها البصرية، والألوان بأماكن انبثاقها، والزوايا بوعيه للعمارة.. وكأنها في مجملها توفر قوة إبصار موحدة تدعو لإعادة تلقي العمل الفني وفق لحظته المنقسمة على ذاتها.. لخطة إنهاء العمل، ولخطة مشاهدته أو تلقيه،وعلى الصورة والإيقاع المتولدان من حركية التشكيل الغرافيكي للكتابة، ومن التوقيع الموسيقي للسطور في لعبة قوامها التركيب من وعلى أية مادة من المواد، سواء أكان ورقاً أو قماشاً أو جلداً أو نسيجاً أو رقصاً أو نحتاً.. التركيب بإشارات تشي بالحروف وتتجاهل قيمتها، ولهذا فهو يصرح: "في مقاربتي الخاصة لأسلوب عملي في فن الخط أجد نفسي أدمر الأسس التي قام عليها هذا الفن".

     سواء أكان يتمثل الحرف، أو يتكئ عليه، أو يحطمه، فإن واصلاً قوياً يمنح عمله ما يحيل إلى الذاكرة المولدة للحياة، فهو على خط التماس مع البيئة والمكان والكتابة والشعر والأوزان والمخطوطات.. الأرض والسماء، أنواع الأقلام، والتنميق والتزويق والتجصيص والتعدين والإشباع والتزوية.. ولهذا يصدق ما يقوله عنه شربل داغر: "ما أن ينظر العربي إلى أعمال المهداوي حتى يتملكها مباشرة، يشعر بصلة معها، يتعرف فيها على مراجع ثقافية – جمالية تربطه بها، إلا أنه تملك آني ليس إلا، ذلك ان الملتقى العربي لا يلبث أن يرتد، أن يتراجع عن انطباعه الأول، بعد أن يمعن النظر فيما يراه".

     هذا التراجع عن الانطباع الذي يتشكل لدى مستقبل العمل الفني للمهداوي مرتبط بما يدعوه جان فرانسوا ليوتار (ألعاب اللغة) Language Games بالاستناد إلى فيتجنشتين Wittgenstein حين يعيد دراسة اللغة من الصفر، إذ يذكر في كتابه الوضع ما بعد الحداثي حول هذا المصطلح: "يمكن تعريف كل وحدة من فئات العبارات على أساس القواعد التي تحدد خصائصها، والاستخدامات التي يمكن استخدامها فيها، بنفس الطريقة التي تعرف بها لعبة الشطرنج بواسطة منظومة من القواعد التي تحدد خصائص كل واحدة من القطع، وبعبارة أخرى، الطريقة المناسبة لتحريكها".. هذا الفهم بصورته العامة يمارسه الفنان على المستوى البصري، فلعبته البصرية محكومة بقواعدها الداخلية، التي تتيح له المضى في احتمالات لامتناهية، تعينه على تطوير هذا السرد البصري المتجلي في كل مرة بصورة مختلفة، دون أن تكون مهمتها توصيف الأشياء، أو تقديم معانيها. فهي مرئيات إشارية، يمكن رؤيتها كل مرة بطريقة مختلفة، بسبب العلاقات القائمة بين موجودات اللوحة من ألوان وخطوط دقيقة وثخينة، أو ما تحدده الإمكانات التقنية العالية للفنان في رصد الحساسية البصرية الإشارية، التي تبثها أجزاء اللوحة. وكل ما يدعو لتقييم المبصور باعتباره مرسوماً خطياً حكائياً على المستوى المعرفي.

     أما لماذا يشعر العربي بصلة مع هذه الأعمال، أو أن الآخر غير العربي يرى فيها هذه الخصوصية، فإن الإجابة مرتبطة على المستوى السردي بخبرة المهداوي، الذي يرسم بكفاءة مشاهداته الفيزيائية والماورائية، مستمتعاً بإعادة صياغتها وفق قواعد الروي الابتكارية. ولهذا فإنه إذ يستمد مفرداته الأساسية من المعارف والعلوم العربية، فإنه يستمتع بتحويلها كل مرة إلى نص بصري يتجاوز فيه السلف مع الخلف.. وبكلا الحالين، فإن النسب واضح إليه ذاته، بالإضافة إلى النسب المعرفي.. إنه بالضبط ما يجعل مشاهده أو متلقيه مشاركاً في الموضوع البصري الذي يطوره الفنان بالاشتغال على ما يمكن دعوته: النبرة البصرية، التي تفعل فعل الزمن في انسيابه، وتجعل في نفس الوقت كل عمل من أعماله امتداداً لعمل قديم منجز. وهي رابطة تضع المهداوي في موقع الراوي، والمحلل للغة بصرية تتعالق بالمرسوم الخطي،والتي ما زالت محط النقاش في المشهد التشكيلي العربي.

     بالتأكيد لا يمكن الإشارة إلى حنين يدفع الفنان لتقديم الحروف أو الكتابات، وتثبيت حضورها في شكلها المتعارف عليه، وإنما يمكن تحديد أن هناك إرادة غامضة لدى المهداوي هي: إرادة الفن والإبداع، التي تدعو لابتكار ألعابه البصرية التصويرية. وهو الأمر الذي يجعله طليعياً في قائمة فناني المرسومات الخطية العربية.. إنها الأدوار التي لعبها الكثير من الفنانين في العالم، براك، بيكاسو، ماليفيتش، شيريكو Chirico، دوشامب.. الخ، ممن منحوا هوية للوعي، وأسسوا أجناسا فنية صبغت زمانهم بوعيهم، وحققوا إدراكاً للفن لم يكن مسبوقاً، رغم كل العواصف التي أثاروها في أزمانهم.

     لقد حرص نجا المهداوي ومنذ بدايته على مواجهة الحداثة الغربية بالتساؤل عن الصورة التي ستمثل خطته المستقبلية، حدث ذلك في روما، وفي باقي العواصم الغربية ومتاحفها، بعد أن أحس أن السعي العربي يحتاج هو الآخر إلى اتفاق حول تطلعاته، وكأن صوت النقد كان خطوته الأولى لفهم التطورات الناشئة في الفكر الغربي، والانزياحات المتسارعة التي تتيح له أن يعقد رهاناً مع نفسه، لتجاوز الصعوبات المتصلة بمغايرة الغرب، عبر الإشكال الجوهري الذي يعاني منه الفن. وهو سؤال اكتشف المهداوي أنه لا يخص الفنان في الغرب وحسب، ما دعاه ليقول في غير موقع بأن فنه إنساني يسرد نفسه في إطار الزمان الذي يعيشه. كونه يستفيد من كل المعارف والمنجزات البشرية، وعلى علاقة متبادلة مع العالم تدفعه لاستيعابه، والتعبير عن حقيقته بفعل التثاقف، والتفاعل، والوحدة المعنوية. لهذا صرح في طوكيو - اليابان العام 1997: "مهما كان ماضي الشعوب التاريخي، ومهما كانت الوحدة الروحية والأخلاقية والمادية أو الثقافية، فإن الوحدة المعنوية التي تمثل التطور الحقيقي للأرواح خارج التجديدات الضرورية إنما هي حركة المبدع الحقيقي القاطعة التي ستبقى روح كل العلوم العميقة وكل الفلسفات".