نجا المهداوي: ليس خطاطاً
بقلم: محمود شمس الدين عبو
قد يكون اعتبار مصطلحي خطاط و خط عربي مصطلحين لم يغادرا اتصالهما ببعد وظيفي خاصة من الجانب اللغوي، فكثيرا ما اتصل الخط العربي بفن الكتاب والعمارة… ومسألة اعتبار الخط العربي منظومة فنية معاصرة متكاملة لها مساحتها في الدراسة، ولا تخلو من الإشكاليات خاصة وأن التصنيفات الغربية تسيطر إلى حد كبير على خارطة المشهد البصري ككل، رغم ذلك ومن باب البعد الأدائي في الخط يمكن أن نسحب تجربة نجا مهداوي إليها وذلك لقيم التشابه من حيث بناء عناصره الغرافيكية التي كثيرا ما تذكرنا بمقاطع أو مفاصل أو حركات نجدها في بعض أساليب الخط العربي، مع هذا لا يمكن بأي شكل اعتبار نجا مهداوي خطاطا حتى وهو يستخدم نفس الأدوات، أما إذا تأملنا الحروفية[1] فإن الكلام عن علاقة نجا بها من دونها أمر لا يخلو من الصعوبة، مع أن عدم تصنيف نجا لنفسه كحروفي قد يكون كافيا، إلا أنه يجب التفصيل بالقدر الذي يزيح الغموض الذي قد يكتنف منظومة نجا مهداوي خاصة لدى أهل النقد ممن لا توجد لهم ممارسات فنية، لذا يمكن القول أن نجا مهداوي ليس حروفيا أيضا، سواء بمعنى الحروفية كأسلوب تشكيلي حديث له تاريخه، أو ذلك الأسلوب المتفرع من منظومة الخط العربي المقعد أو المؤسلب[2].
صفحة من كتاب خط النسخ المصحفي لعباس البغدادي
وقد يكون من الضروري الاستعانة بمشاهد حية للفنان وهو يمارس فنه للوقوف على طبيعة عمله، لذلك يمكن القول أن فن نجا مهداوي فن أدائي تأملي يترجمه بنى بصرية تجعل المتلقي يقتفي -متأملا- أثر المعنى أو تأثير الخط (Line) في ما يشبه الكلمات والحروف... يمكن القول أن نجا مهداوي يكاد يخلق فنا -مجاورا- للخط العربي والحروفية- لكن بروح يختص بها جمع فيها بين التشكيل الصرف وبين البعد التصميمي وعمارة التأثير الذي أفضى به إلى مساحات أكبر، جعلت فنه يستخدم في مجالات تصميمية.
سيكون من الضروري ونحن نتأمل تجربة الفنان نجا مهداوي لأجل تصنيفها ودراستها أن نكون قد حددنا المناطق الفنية التي تحيط بها من حيث التقاطع والتشابه، نقصد بذلك فنون الخط العربي و فن الحروفية و التصميم، سيكون ذلك مجديا في أن نحصر حدود التجربة لديه كمجال ممارسة وتطبيق، ومن ثم تأملها في ما تنفتح عليه من عوالم مفاهيمية نعيد فيها فهم الحرف مجردا والكلمة كرسم، والكتابة دون اتصال كعناصر تتمازج مع اللون وتخلق مشاهد بصرية تؤسس لخصوصيتها بمجرد مثولها كأعمال تغادر منظومة الفعل لديه (التي لها مقامها الخاص أيضا) إلى ظواهر تعددت وتنوعت على مر سنوات تجربته.
فالخط العربي فن محدد بالقاعدة والأسلوب و مسائل الإبداع فيه مهما تنوعت تكون محكومة بالعنصر الأساس وهو الحرف وما يقوم عليه من موازين و قواعد، وبالتالي فإن فنان الخط العربي يتحرك داخل منظومة محددة الملامح، يبرز فيها دائما الحرف كوحدة تشكيلية.
وإن شئنا تناول فن الخط العربي تشكيليا فإننا لا نجد مناصا من القول أن كل العناصر التشكيلية والتصويرية التي تبنى عليها لوحة الخط هي كلها قائمة على العنصر الأساس وهو الحرف، وقد يكون الأمر قائما بمستويين الأول أن يكون الحرف جزءا من كلمة أو عبارة تفيد معنى واضحا والثاني أن يكون الحرف لذاته، باقيا على تعيينه على أنه حرف ألف أو واو أو جيم ...الخ
أما الحروفية فإن هذا المصطلح في حد ذاته أكثر ما يقصد به تجارب تشكيلية كانت قد تعاملت مع الحرف كشكل يحمل هويته العربية وليس كخط أو كتابة، وإدخاله كعنصر تشكيلي في اللوحة، بدليل التنظيرات التي أحاطت بأعمال فنان مثل شاكر حسن آل سعيد ومسألة البعد الواحد. أيضا بعض التجارب التي استعارت أفكار تجارب أوروبية من خلال إدخال نصوص أشعار أو التعامل مع النصوص من باب تصويري شكلي على غرار أبولينيرApollinaire، وبعده حروفيو أوربا مثل إيزيدور إيزو [3]Isidore Isou
إيزيدور إيزو، تكوين، 77x54.4 سم سيريغراف
أما ما يتصل بالخط العربي فهي تجارب بنيت على الحرف العربي، على الرغم من عدم معرفة أصحابها بالحرف كالخطاطين، فهناك الكثير من التجارب التي أدخلت الحروف العربية والخط العربي مجالا تشكيليا بعيدا عن قواعد صناعة اللوحة الخطية، وبملامح تنزع إلى التشكيل الصرف، ومما سبق لا نجد حرجا في أن نقول أن تجربة نجا مهداوي تتفرد بأن خلقت فنا مجاورا لهذه الفنون، على الرغم من التقاطع المفاهيمي والتشابه البصري مع منظومة الكتابة والخط بشكل عام.
تساهم جميع السياقات والتراكمات في خلق الفعل الفني، فضلا عن المكتسب المعرفي والتكويني لديه، وقد يكون للممارسات الفنية المتنوعة لدى نجا أثر بالغ في صنع ما يمكن أن نسميه (ظاهرة نجا مهداوي).. ويمكن ضرب مثال جيد على مانرمي إليه، فالحرف سواء كتابة أو خطا سيكون متوحدا في صفته الغرافيكية أو من حيث هو رسم أو شكل، لكن الفرق الجوهري يكمن في الفعل، فالفعل في الكتابة يختلف عن الفعل في الخط، لذلك وفي حالة مثل حالة نجا مهداوي سيكون من الضروري الوقوف (مطولا) أمام الفعل الفني لديه، قد تكون المشاهدة في أعلى درجات كمالها لو كان التلقي للفعل مصاحبا له، لكن مشاهدة بعض الوسائط المرئية عن نجا مهداوي وهو يعمل ستفي بشيء من الغرض.
وقد تتبادر إلى الذهن أسئلة عما يفعله، هل هو يكتب، يرسم، يرقص بطريقة ما، يغني في صمت، يتمم بيده قطعة موسيقية أو سمفونية ما؟ قد يكون كل ذلك واردا.. لكن الفعل كله واحد، قد تجعل متلقيا نبيها لا يتورط في انتظار النتيجة أو العمل الفني قائما أمامه.
قد يتمثله المتلقي وهو يتحرك بيده داخل مساحة كبيرة كأنه يرسم على الماء، ذلك أن العمل على السطح بشكل أفقي كماهو الشأن لدى الكثير من الفنانين له قراءته أيضا...[4]
صورة عن عرض حي، نجا مهداوي ونصير شمة، 2023
ربما هذا الطرح يجعلنا نرى العملية كخلق يحدو صاحبه تأمل حد الفناء، فنراه مثلا يبدأ بدائرة كخلية أولى سرعان ما تجاورها حركات ومدود، صحيح أنها محكومة بحدود السطح لكنها تبقى نابضة بالحركة وموحية بروح الفعل من أوله إلى آخره.
من النادر جدا، أن نتأمل تجربة فنية ولا نعقد مقارنة أو مشابهة ولو بشكل غير مقصود، لكن ظاهرة نجا مهداوي تبقى فريدة من نوعها، تتحرك في مدى مجاور، ومتجاوز المتراكم الفكري للفنون البصرية الحديثة، لا تستعير منها، ولا تتأثر بها، وهذا بلا شك من الصعوبة بمكان.
كما لا يمكن أن نتورط نقديا في التصنيف، واستدعاء خصائص فنون أخرى، أو فلسفة فنانين آخرين لتبرير الفعل لدى نجا مهداوي، إلا من باب التعضيد لا المعارضة أو النقد... فمسألة التصنيف في التجارب الفنية أمر أوجدته كتابات تؤرخ للفن الغربي، وأسست به خارطة لا خلاص منها لدى الكثير من النقاد، لكن بشيء من التأمل واعتبار الخصوصية والهوية، قد نخلص إلى أن نجا مهداوي هو نجا مهداوي، ليس حروفياً ولا خطاطا ولا حتى تشكيليا، كما تحول قبله بيكاسو من التكعيبية ومراحله الزرقاء والوردية وغيرها، إلى بيكاسو...
لذلك، إذا شئنا، ففن نجا مهداوي هو نجا مهداوي. وتبقى المشكلة في التشبيه!!
[1] ) الحروفية مصطلح تم استخدامه لتصنيف التجارب الفنية البصرية التي تتصل بالكتاب العربية وفنون الخط، مع أن هذا المصطلح له مدلولات أخرى في سياقات أخرى، يقابله Letterism/Lettrisme و دلالة المصطلح الأجني يقصد بها تحديدا تجارب فنانين أوروبيين منهم الفنان الروماني إيزيدور إيزو Isidore Isou تتميز أعمالهم بتضمين نصوصو وكتابات شعرية.
[2]) نقصد بذلك القواعد والموازين الخاصة بأساليب فن الخط العربي، إذا تختلف موازين كل خط عن غيره، و يعتد على ذلك بميزان النقطة وأجزائها.
[3] ) إيزيدور إيزو Isidore Isou (1925-2007) شاعر وروائي وفنان بصري واقتصادي روماني مؤسس لمذهب الحروفية في أوروبا.
[4] ) قام الفنان نجا مهداوي بتجربة أدائية مع الفنان نصير شمة، بمسرح بيير بوليز ببرلين، 2023
https://www.youtube.com/watch?v=G0sV0cqpORU